الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن إبراهيم التَّيمي عن عائشة- رَضِي اللّهُ عَنْهَا-: «أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ». رواه أبو داود والنسائي: قال أبو داود: هو مرسل، إبراهيم التَّيمي لم يسمع من عائشة، وقال النسائي: ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلًا، وصححه ابن عبد البر وجماعة.وشهد له ما تقدم وما رواه الطبراني في المعجم الصغير من حديث عَمْرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذات ليلة، فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائمًا يصلي، فأدخلت يدي في شعره لأنظر: أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة، قال ابن أبي حاتم: ولم يسمع منها.قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم أسنده من طرق، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي.وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد، بل هو المعنى الحقيقي، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز، وأما قولهم: بأن القبلة فيها الوضوء، فلا حجة في قول الصحابي: لاسيما إذا وقع معارضًا لما ورد عن الشارع، ويؤيد ذلك قول اللغويين، أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: إن امرأته لا تردّ يد لامس، الكناية عن كونها زانية، ولهذا قال له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «طلقها».وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض، لأنه لم يثبت أنه كان متوضئًا قبل أن يأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضئًا عند اللمس، فأخبره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قد انتقض وضوؤه كذا في [نيل الأوطار].وقال ابن كثير: هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث الصديق: «ما من عبد يذنب ذنبًا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»، وهو مذكور في سورة آل عِمْرَان عند قوله: {ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عِمْرَان: من الآية 135]، الآية.الخامسة: التيمم: لغةً القصد، يقال: تيممته وتأممته ويممته، وآممته أي: قصدته، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد.قَالَ الزّجّاجُ: الصّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللّغَةِ فِي ذَلِكَ.وفي [المصباح]: الصّعِيدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى وُجُوهٍ: عَلَى التّرَابِ الّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى الطّرِيقِ.وفي [القاموس]: الصعيد التراب أو وجه الأرض.قَالَ الْأَزْهَرِيّ: وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنّ الصّعِيدَ فِي قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيّبًا} هَو التّرَابُ. انتهى.واحتجوا بما في صحيح مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عليّه وسلّم: «فُضّلْنَا عَلَى النّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ».وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء».قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه، قالوا: وحديث جابر المتفق عليه: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام، واحتجوا أيضًا بأن الطيّب لا يكون إلا ترابًا.قال الواحدي: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبًا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ} [الأعراف: من الآية 58]، فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: {فَيَتَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا} أمرًا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب، واحتجوا أيضًا بآية المائدة، قالوا: الآية هاهنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه وتعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: من الآية 6] وكلمة (من) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.قال الزمخشري: وقولهم إن (من) لابتداء الغاية، قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب، من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض، ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.وأجاب القائلون، بجواز التيمم بالأرض وما عليها، عن هذه الحجج- بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض لأنه ما صعد أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب.ويؤيد ذلك حديث: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره، وما ثبت في رواية بلفظ: «وتربتها طهورًا» كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة- فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء، لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من جدار.وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابًا طاهرًا منبتًا لقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِدًا} [الأعراف: 58]- فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر، والضرورة تدفعه، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجًا للنبات، كذا في [الروضة الندية].وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدًا إلى الصعيد.قال الناصر في [الانتصاف]: وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: {وَإِن كُنتُم مّرْضَى} إلى آخرها فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه، يقال: تيممت من الجنابة، قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو الغاية، وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.السادسة: أفاد قوله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط، وهذا إجماع، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: من الآية 38]، وقالوا: وحمل ما أطلق ههنا، على ما قيد في آية الوضوء، أولى لجامع الطهورية.وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال: «مررت على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد عليّ، حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصًا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليّ».وهذا الحديث منقطع، لأن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز، لم يسمع هذا من ابن الصمة، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: دخلنا على أبي جُهَيم بن الحارث، فقال أبو جُهَيم: «أقبل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، حتى أقبل على الجدار، فوضع يده على الحائط، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام».ولأبي داود عن نافع قال: انطلقت: مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام، إلا أني لم أكن على طهر».وفي رواية: «فمسح ذراعيه إلى المرفقين»، فهذا أجود ما في الباب، فإن البيهقيّ أشار إلى صحته، كذا في [لباب التأويل].قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه: ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاريّ، وأبو زرعة وابن عدي: هو الصحيح.وقال البيهقيّ: رفع هذا الحديث منكر.قال ابن كثير: وذكر بعضهم ما رواه الدارقطنيّ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين»، ولكن لا يصح، لأن في إسناده ضعفًا لا يثبت الحديث به. انتهى.وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان، قال الحافظ ابن حجر: هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين، مما ذكر، ففيه نظر، لأن طرقها جميعها لا تخلوا من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعينًا لما فيها من الزيادة.ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال: «تمسّحوا وهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم». أخرجه أبو داود.قال الحافظ في [الفتح]: وأما رواية الآباط، فقال الشافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فكل تيمم صح للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به.والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.قال عمار: أجنبت فلم أصِب الماء، فتمعكت في الصعيد، وصليت، فذكرت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه»، متفق عليه.وفي لفظ: «إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين». رواه الدارقطني.وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عمار بن ياسر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال في التيمم: «ضربة للوجه واليدين».وفي لفظ: «إن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمره بالتيمم للوجه والكفين». رواه الترمذيّ وصححه.قال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم- فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في [حواشي البخاريّ] حيث كتب على حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاريّ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في الروايات هذا الحديث أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقًا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: «إنما كان يكفيك» معتبر بالنسبة إليه، كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب، فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد.
|